الأربعاء، 28 يوليو 2010

فنيسيا وطني بميلاد اخر

على ضفاف هذه الشواطئ ولدت كارمينا , لم تكن مجرد فتاة تثبت أنوثتها الأسماء, بقدر ما كانت حصيلة حية لمعاني تقتبس الأنوثة منها أوجها وثقافتها , دافئة كسطح البحر , عفيفة كالخيل مجنونة كالشاطئ المتناغم مع كل حبة رمل
عرفتها صبية ترعى ظلال الحياة بخفة , وتموج مع كل نسمة كموج الروح لحظة التقاء الحبيب ... كثيرا ما كنت أراقبها من بعيد , أدنو مع كل خطوة وأعد صمتها بالثواني الثقيلة , وارمي سنابلي بين قدميها لتزيد خضرة ويراعا
لم تعرفني!! وان عرفتني فلقد كنت في حياتها كأي مشهد يضرب بعيونها الربيعية محتواه وتمضي بلا أي تأثير , كنت اكتفي في تلك الأيام بما تعطيني الليالي من أحلام خفيفة أتنفس معها أية ذكرى أو أقل أمنية .
كثيرا من الأشياء كانت تجمعني بها خفية , فالبحر كان ملاذها ومأواي والصمت لغتها وأغنيتي , والغروب حبيبها ورفيقي , والليل والنجوم كانا بمثابة عقد من الأمل تملؤه كل ليلة بالنور والغفران وترميهما بحضن البحر مع أمنية دفينة في أحشائها , كانت أسطورتي وموسم حصادي و بيدر جنوني وثمرة اجتهادي وغلة موسمي
أذكرها بدقة تعجز الشمس عنها لحظة اللهيب , فأنا أكثر قدرة من الشمس على قراءة كل تفاصيل مساماتها الناعمة , والجغرافي الوحيد الذي يمكن أن يرسم خارطة روحها وتفاصيل جسدها الوردي بخطوط كثيرة قد لا يفهمها سواي
وعلى الرغم من هذا كنت بعيدا عنها لأنها الحلم الذي خفت أي يوقظني منه اللقاء المبهم القابل للرفض , بل ولأني قرأت زجاجة دسها ساحر لعين فوق شواطئي قال لي فيها أن كارمي ليست لك , وان شغفها هذا وبريق عينيها هو طريق تعبر به لحبيب غائب
احترمت الحب أكثر وأخذت نفسي في رحلة الغياب تلك وأنا احمل كل خرائطي وملذات ذكرياتي ورائحة ثوبها في حقيبتي ورحلت , رحيلا ظل يوقظ بين أحشائي لذة اللقاء ويطور في أوردتي طرق جديدة لضخ مادة أخرى أكثر حمرة من الدم واكبر قيمة من الألم وأجمل إحساسا حتى من الحب ...
اخترت مكانا أجدها به رغم غيابها , مكانا أصرخ فوق شواطئه كل صباح لأفتح بصمة صوتي على حروف اسمها اللؤلئي السلس , وفعلا رحلت مع صباح يوم حفظت تفاصيله بمنتهى الدقة , وكتبت فوق خيوط نهاره خاطرة اللقاء البعيد , ووصلت باللحظة التي كنت اسمع صوتها ينساب حنية تبكي غفوات البحر فوق أنينه , وتشتكي السكينة مع عمقه ولذته .
سحبت قاربي جيدا حتى لا تأخذه لذة الشغف للقاء من جديد فهو الآخر كان مشدود القلب لها وغارق في حلم ترحل به معانقة أوج البحر فوق أخشابه القديمة , أتعبني دون أي مرة حتى أرهقته المحاولة على العودة , ولكن فات الأوان على العودة قلتها له من مساحة بعيدة خلف قلبي , ورفض السمع , فجددتها له محاولا إرفاقها بشيء من القوة لعل في هذا جميل يتذكره هذا القارب يوما ما .
اخدت حقيبتي وما لا استطيع نسيانه وتركت خلفي عالم يعج بالجمال والطمأنينة , عالم كان حلمي وأصبح حلمي الأكبر , وما كان ونيسي هو حبي لها , فما أصعب أن تترك وطنك ليعيش حبيبك مع من يحب دون الشعور بشفقة مؤلمة عليك

اجتزت بعض الغابة محاولا الهروب من البحر والغروب , ونمت أول ليلة هناك وحلمت بها كالعادة
فتاة لذيذة الطلة , بهية المشهد , ترتدي فستانها الأبيض الذي يلوح فوق جسدها كما تلوح في الأفق أمنيات الأطفال
رأيتها تركض بقدمين من نور وخلخالها الفضي وبعض النجمات التي تتراقص حول قدميها , رأيتها بدقة , رأيت شعرها الملبد كالغيم يحكي قصة العبق وتاريخ الدنيا بلطافة عذبة , وهي تركض سابحة في زير من الأمنيات الغريبة , كفيها مفتوحتان للسماء وكأنها اسفنجة تمتص كل ما يمكن أن تبكيه غيابات الماضي ولقاءات الآتي
وتجمع فوق صدرها ثمار بستاني , وتخبئه محاولة ترك سماد نهديها ليكون شاهدا على الاخضرار الناضج المتكور برتابة متقنة.

بدأت أتقن الاحتفاظ بالحب وأتقن التعامل مع كل لحظة أموت بها لأحيا من جديد وأنا أراها كل ليلة بتفاصيل أكثر عمقا وأشمل محتوى وأثقل وزنا.
مرت عدة أشهر على هذا الحال وقد ضاق بي العيش هنا لا خل ولا صديق ولا حتى عابر طريق , كنت أشتاق أن اسمع صوتا يحيي بداخلي ما أماتته الوحدة وغيرت ملامحه الحياة المؤلمة . لا شيء معي سوى رتابة المكان وهدير البحر ومده وجزره وفيضانات الذكريات المتراكمة فوق رمالي
كنت أكتفي بهذا القدر من العطاء القليل وأصوغ من خلاله أهازيج تمدني دائما بطفولة رحلت ورحل معها الكثير من العبق
بل وأكتفي بما استطاعت عيوني أن تجمعه من صور خفية لروحها المتسللة إلي بجهر قاتل وقوة خفية .
وفي كل ليلة أبدأ البداية بلا نهاية ! واحلم الحلم ذاته !! واسرد الحكاية لا غيرها و أغوص في دمعة وابتسامة هما كل ما لدي في وحدتي ووحشتي
وبعد أكثر من خمسة فصول قررت العودة إلى الشاطئ , وأنا أعلم أن كارمي أصبحت في الزمن الماضي وهي في أحشائي كقطعة مني لا يراها سواي .
كم كانت العودة مؤلمة فالمكان لم يتغير والتفاصيل بدت وكأنها رحيلة الأمس حتى الغروب بدا أكثر إشراقا وأقل عمرا
وصلت إلى المكان الذي رحلت منه حاملا معي كل شيء وبدأت أتسلق بنظراتي الأمواج التي قد تصرخ في وجهي أو تلقن روحي خبرا قد يسعفها عن كارمي البعيدة القريبة
عدت إلى الكوخ الذي يجلس أعلى التلة فهو ملاذي حتى الصباح

ليست هناك تعليقات: