الجمعة، 30 يوليو 2010

مدينة الكراوية

مدينة جميلة ... كأنها الجنة في تأوه طقوسها وحركة نسيمها ونسج خلقها الاخاذ
الذي تزينه الكراوية من شتى البقع والاتجاهات ... كانت المرة الاولى لي في زيارتها , وليتها لم تكن الاولى , لأن كل شئ ابتديه ينتهي بسرعة , فلم اكن ادرك ان خلف هذه المدينة يقطن المجهول الذي لا مفر منه , تركت نفسي بين ثناياها كما تترك الزهرة نفسها بين اذرع الربيع , وحاولت التعمق في جحودها وخباياها , كما يتعمق الصمت في جوف الحكيم ,
وبدأت الرحلة
كنت حينها لم اتجاوز العشرين وثمار الحياة امامي ممدودة كما تمد الارض بساط شغفها لربيع جديد . وعندما تلمست جمالها وبدأت افهم موضعي وموقعي منها :!:
وجدت ما اجبرني على الندم في كل نظرة تركتها تتغلغل فيها وفي كل فكرة رسمتها بين ترانيمها , فعندما كنت اضجر من نفسي واحاول الهرب من فكري كنت اتجه الى تلّة صغيرة جميلة كانت تبعد عن مكان سكني كما تبعد قيمة الأرواح عن قيمة اللاأجساد, لكنني كنت اخذ نفسي في المسير اليها بلهفة تسبق كل لهفة وخطوة تسبق كل خطوة الى ان اصل الى تلك التلة التي كنت اسميها تلة الكراوية ,
كنت ارمي حمل احزاني بين احضانها النقية واترك هموم نفسي بين ابجديتها الحقيقية , واسرح معها ليلي الطويل باحثا عن سر انجذابي بها وميولي ومحبتي لها , ولكني كنت افشل دائما في تحليل هذه الرابطة التي تقيدنا سويا
وفي احدى المرات بينما كنت احاكي مياه النهر المسرعة التي كانت تغمر جوف هذه التلة رأيت فتاة سبقها العمر وترك سيل الامه بين يديها وغرسها في بقعة بركانية ظاهرة نارها في تسابيح عينيها
شدني الصمت وقيدت لساني الكلمات ولم اقوى سوى على اللاشئ امام الخضرة اليانعة التي كانت تغذي روحها العذبة عذوبة تلك المياه ,,, اقتربت منها بسكوت اعظم من السكوت وانفاس تتقطع كما يتقطع حبل المطر في زحمة الريح ,,,
لكنني بنظرة سريعة لما حولي قررت ان اقترب من هذا الكوكب المجهول وارسم بخطوط يدي واحبار لمساتي والوان روحي ولو بسمة صغيرة اظل اذكرها ما حييت
شدتني الاقدام اليها وبدأت اشعر بطقطقة انفاسي المتقطعة كما تتقطع الحروف في حلق الصغير .............................
لم اكن ادرك ان المرء قد يهيج بلحظة حتى يرى الكون قطرة ندى
والايام لحظة لا تتعدى منتصف اللحظة ,

إقتربت اكثر حتى شدني صوت ثوبها الذي تغتاله النسائم وتلعب فوق اطرافه الرياح الندية
كانت تشعر بصوت اقدامي المترجفة حد الخوف , ولما صرت خلفها ولا يفصلني عن روحها وجسدها سوى بعض من النسيم واصوات خفية يظهر صداها
فقلت : هل لي ان اكون لحظة في صمتك الرهيب ؟
فأجابت : ومنذ متى كان في الصمت لحظة !!! .
قالتها بصوت اشبه بسحبة كمنجة على مقام النهاوند او كأنها مازورة في احدى معزوفات ياني , فتقطعت بعدها كل حروفي وغدوت كالطفل الصغير الذي يبحث عن تركيبة تعبر عما يريد ,,, ولكن الشوق الذي شدني بالحديث اليها كان يتكلم بلساني
ودارت حوارات الصمت المتجذر في احشائي بيني وبينها
لماذا لا ترحمين كيانك الوسيع بينما المياه قادرة على استيعاب كل ما نحوي ؟؟؟
ومن قال لك أني لست من التركيبة الجينية لكل قطرة من هذه البحيرة .
هذا يعني أنك منها
يكفيني هذا
اكتفاؤك يعبر عن عجز اكاد اخاف عليك منه
تخاف عليّ لشئ تريده ام لعجز يريدني ؟
لا أدري
وماذا تدري إذن
أتحاولين انهائي ورحيلي ؟؟؟
أنا لا أنهي أحدا فلو كانت لدي القدرة لفعلت لنفسي أولا
اتبحثين عن النهاية
لا نهاية لما لم يبدأ بعد
لا أفهم
هذا ما أبحث عنه
حسنا من أنتي ؟؟
انا من عاقبتني السكينة على صمتي وأقنعني العتمة بالعمى المبكر
فغدوت صماء لا اسمع ولا احكي وصرت عقيمة النظر عمياء البصر
يقولون ان البصر لا يموت الا بموت البصيرة
جيد أنك ادركت مقصدي
أهل ماتت بصيرتك ؟؟
ليس لدي شئ حي سوى الامي
لكني اراكي جميلة
أولم تعلم أن الجمال ألم
أعلم ان الألم هو كل شئ في هذه الحياة
أسعدني علمك يا فتى
أولستي فتاة ؟؟؟
كنت فتاة وأصبحت أتمنى كوني فتاة
فماذا أنتي لآن
كما تراني
أراكِ جميلة
أحيانا تكون الحجارة جميلة والقصة جميلة وحتى اللوحة المجردة جميلة
ما الذي يؤلمكِ ؟؟؟
إسمي
ومنذ متى تتعبنا الأسماء ؟؟؟
على الأقل اتعبتني انا
ما إسمكِ ؟؟؟
مكتوب على هالات الماء هناك , إنظر مليا وتفرس عندما القي الحجر ماذا ترى
أرى هالات تكبر حتى تتلاشى
احسنت وصفا وأنا هكذا كبر الحلم في روحي حتى تلاشى وكبرت المحبة في احشائي حتى تلاشت وكبرت الالفة وعظم الوفاء وتضخمت التضحية وكل شئ تلاشى كما تلاشت هالات حجري الصغير
أشعر أن اشياء كثيرة تكسرت في احشائكِ
تكسرت احشائي معها
قالت هذه الكلمة وبدت لي مخنوقة باكية ساترة دموعها اللوزية خلف شعرها الكستانئي الجميل
ورفعت رأسها لتداري دموعها ونظرت بين طيات الغياب وانغام السماء الذي تآكلت اطرافه بوقت الغروب
ثم حملت نفسها وتوارت خلف ستائر الغياب وانا اقف خلفها واراقب حركتها المخملية المجروحة وكأن خلفها أثر لخطاها .

الجزء الاول

ثم توالت الايام كما يتوالى الشروق والغروب , وانا في صفنة الادب المغمور بحب السرد لأحداثها المتتالية
لم أكن منصوب الجسد بعد , ولم يكن لدي من الخبرة التي قد تمدني بالحكمة
ادركت ان شيئا في احشاء هذه الفتاة زرعه الله , وحملني سماده وماءه
ولكن كيف اراها بعد ان توارت عنّي كما يتوارى الدفئ في باطن الغروب
مرت ثلاث فصول وعاد الشتاء يحمل معه ضباب الامنيات
ويغسل بقطراته خطايا الاشياء
وانا انظر اليه وكأنه يحكي لي قصة قديمة امام مدفئة لعجوز وفيرة السن في قصرها الكبير
ولا اخفيكم ان كثير من التنهدات المتتالية ظلت تخنق روحي
فما اصعب ان تبحث عن الضوء الخفي في العتمة المنيرة
ولكن رغم كل هذا ما زلت أزور تلة الكراوية لأنها بالنسبة لي مهد مشاعري التي اخاف ان تموت في مخاضها
كنت اجمع ذكرياتي اللحظية هناك واكتب على اطراف الصخور رائحة الأشياء التي تتحرك في احشائي
كما تتحرك حركة يدي على هذه الحروف المعقدة
وفي الثاني من تشرين اول من عامي هذا
زارني هاجس العطر الذي ما زال وفيا من لحظة لقائي بها
وقال لي اذهب الى التلة فإن لك هناك حبا قد يزول مع الرياح
وينتهي مع اخر ربيع قادم ,,, أذهب واحتضن ما ظل حيا في روحك البليدة
ذهبت مسرعا وكان الجو ماطرا والريح قوية وكأن القدر يحاول ان يمنعني عن الوصول الى هناك
ولكني وصلت رغم صعوبة الظروف
ووقفت حيث كنّا يوما نجمع الحروف من فم الصمت ونرتبها على مقامات الموسيقى الشرقية
ونرتلها معزوفة على احبالنا الصوتية العالية الدوزان
وقفت هناك بلا حراك وكأن المطر يقول لي سأغسل كل احشائك والرياح تضربني بكفيها كما يضرب
الصوت اكفافه على جنبات السهول الوسيعة
البحيرة امامي والمطر فوقها وثقوبه تبني من الهالات مالا نستطيع احصائه ووصفه
ورماديات المكان كانت غالبة على مرئى بصري
واوراق كثيرة من شجر الكينا تتلاعب بين انسجة المكان
وطقطقة اللاشيئ تحيط باللاشيئ
خفت ان اكون قد جئت في اللحظة الخطأ
وصرخت بصوت اخافَ خرير الماء واسكتَ حفيف الشجر
هل انتييييييييي هنااااااااااااااااااا
وكررتها حتى بدت لي المناظر ساخرة من جسدي المبتل وروحي المحبطة حد الموت
واشتد المطر اكثر وزادت سرعة الريح حتى بدت خدودي تتحرك معها
وضعت يدي بجيبي وقدت نفسي كما تقود الخطيئة جسد المخطئ الى منصة العقاب
وانا اقف عن التفكير كما تقف اللحظة في حلق الزمن
واذا بثوب ابيض ساحلا بين الصخور يغطي تقرحاتها الحزينة
حاولت التلفت ثانية فإذا بفتاة ندية مبللة الاطراف تحاول استرجاع ما اضاعه الوقت من ثمرة عمرها
انتي ؟؟؟؟
لا لست انا
لكنني اراكِ
أولا ترى سرابا ؟؟؟
لكنكِ حقيقة
تموت الحقائق احيانا في جوف السراب
ثم سكتنا هنيهة لفاصل الرعد القادم من الجبهة الغربية
وانخفضت الرؤية وبدى المكان كأنه الجنة بالنسبة لي
فقلت لها بصوت الحب
أرجوكِ قولي لي من أنتي ولماذا تأتين الى هنا في هذه اللحظات الصعبة
وما علاقتك بهذه البحيرة البعيدة الحزينة
قولي لي كل شئ كل شيئ كل شيئ
كنت انهي كلامي بينما تبدأ هي بالبكاء
وانا اسمع تنهيدها رغم قساوة المكان
ثم قالت : كنت آتي الى هنا لأني افقد كل شئ
واخاف يا من لا اعرفك ان تآتي اللحظة التي تجبرني على القدوم لأكسب كل شيئ
وبين هذا وذاك خط متقطع لا تراه العيون ولا تحسه الروح احيانا
فأرجوك بحق ما تحمل معرفة وبحق ما تحوي من هواجس واحاسيس ان تتركني
فلقد كانت الحياة هكذا قبل أن تأتي وستبقى هكذا بعد أن تغادر
ثم تنهدت البحيرة وكأنها تخرج زفير روحها لوقع الكلمات
أدركت ان لهذه البحيرة وجود ثمين في حياة الفتاة التي لم اعرف اسمها بعد
ثم قلت لها حسنا كما تشائين سأرحل رحيل الاموات في خفاء القبور
وسأتلاشى كما تتلاشى السنبلة في اول الخريف
ولن أعود فلقد ادركت ان نصيبي من البقاء معدوم
ولكن أريدك ان تعلمي أن لي هنا ذكرى عظيمة لن اتخلى عنها ما حييت
وسرت بخطى ثابتة المعالم مهزومة الجوهروهي خلفي تلوحي باحساساتها
مودعة ذاهبي راجية عودتي
ولما اخذتني المسافة التفتُ برأسي فوجدتها تهوي بين الاشجار
كما تهوي النفس في نومها العميق اخر ليلة في العمر
عدت ادراجي مكفوف البصر مكتَّف البصيرة
عدت الى حيث اسكن لممت كل تراكيبي الحمقاء
فرشاة اسناني ورواية الفونسو بين الموت والحياة
وزجاجة عطري وبعض حبّاة الشوكولاتة المبعثرة بين اوراقي
وحقيبة سفري وبعض الامنيات
كل هذه الاشياء جاءت معي الى مدينة الكراوية
ولكنها عادت معي كما هي
اما الشيئ الوحيد الذي جئت من غيره هو هذه الفتاة الجميلة
وها انا ذا اعود من غيرها
ابتسم ابتسامة الضعفاء معلنا فشلي امام قلبي
وانا أقول ما اغربك ايتها الدنيا وانتي تحمليننا اعباء اناس احببنا ان نحمل معهم امنيات القادم من مستقبلنا
لكن الفشل هو من كان يلبس لباس القاضي والحكم
واتخذت قراري بالعودة
و .........................

وعدت كما تعود الاماني الى ذاكرة المجهول
كانت عودتي امرا لا مفر تماما كما لو كانت مرسومة بنهاية أعلمها

ليست هناك تعليقات: